من يتابع عن قرب الجدل الدائر في بريطانيا، بشأن مفاوضات خروجها من الاتحاد الأوروبي، يَعجب من عدم وجود أجندة واضحة لعملية الخروج وللعواقب المترتبة عليها والبدائل المطروحة، وهذا أمر يثير الدهشة في بلد متقدم مثل بريطانيا لديه مؤسسات ومعاهد أبحاث راقية. وهناك تفاوت شاسع بين الآراء ليس بين الأحزاب والمنظمات، وإنما داخل كل حزب ومنظمة على حدة، بل إن الحزب «القومي» الذي قاد عملية التصويت للخروج من الاتحاد بتخويف الناخبين من قضايا كالهجرة، يتراجع الآن ويقول: «إن عملية الخروج ربما تكون خطأ لا بد من مراجعته»! أما وزير الأعمال السابق «فينس كيبل»، فيقول ربما لا تتم عملية الخروج مطلقاً، في حين ينتقد كثيرون أداء الوزير المسؤول عن مفاوضات الخروج «ديفيد ديفدس»، على اعتبار أنه لا يملك برنامجاً واضحاً للمفاوضات، وأنه يتخبط يميناً وشمالاً.
في ظل هذا الوضع المتأزم، يعاني الاقتصاد البريطاني من عواقب وضغوط شديدة حتى قبل انتهاء المفاوضات، والتي من المتوقع أن تستغرق عامين، فالجنيه الإسترليني في أدنى مستوياته منذ سنوات، والقطاع المالي يعيش نوعاً من الضبابية بسبب عدم الوضوح الرسمي وتضارب المواقف، علماً أن جولتي مفاوضات الخروج زادت الأمر تعقيداً، ولم تسفرا عن أية نتائج ذات معنى.
ففي هذا الجانب لم يتم تقدير تكاليف عملية الخروج بصورة صحيحة وتقديمها للناخبين قبل الاستفتاء، فالتكلفة التي تتحدث عنها فرنسا حالياً تبلغ 100 مليار يورو، وهو مبلغ كبير من الصعب تحمله في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، كما أنه لا يمكن ضمان بقاء بريطانيا في السوق المشتركة ونظام الإعفاء الجمركي بعد عملية الخروج، كما هو الحال مع سويسرا الدولة غير العضو بالاتحاد، أو حتى مع تركيا المعفاة من الرسوم الجمركية.أما موضوع المهاجرين والذي ساهم بصورة كبيرة للتصويت بنعم للخروج، فإنه تبين بأنه ليس بالصورة التي شرحها المؤيدون لعملية الخروج، فهناك 850 ألف مهاجر من بلدان الاتحاد من شرق أوروبا التي انضمت مؤخراً، وأعفيت من تأشيرة الدخول وسمح لمواطنيها بالعمل في المملكة المتحدة، الأغلبية الساحقة منها جاءت من بولندا، وقد ولد لهؤلاء المهاجرين 1.3 مليون طفل في بريطانيا، مما يعني أنهم سيكتسبون الجنسية البريطانية مستقبلاً. إضافة إلى ذلك أضحى هؤلاء يشكلون 80% تقريباً من العاملين في قطاع الفندقة والمطاعم، مما يعني أن خروجهم سيؤدي إلى انهيار هذا القطاع الحيوي للاقتصاد البريطاني، وهو أمر لا يمكن تحمله، علماً أن البريطانيين لا يعملون في هذه الأنشطة. تشير كل هذه الدلائل إلى جملة من الأخطاء المتراكمة، بدأت مع رئيس الوزراء السابق الذي استقال، وهو «ديفيد كاميرون»، فقد كان أداؤه جيداً وقوياً، لكن دعوته للاستفتاء على الخروج من الاتحاد كانت بلا معنى، ثم كررت الخطأ رئيسة الوزراء الحالية «تيريزا ماي» عندما دعت إلى انتخابات جديدة في شهر يونيو الماضي خسرت خلالها أغلبيتها البرلمانية، وهي أيضاً بلا معنى. كيف يمكن الخروج من هذا المأزق، وهل تنسحب بريطانيا من الاتحاد أم تبقى عضواً فيه؟ بعد أن تبين خطأ الخروج وحجم التكاليف والخسائر، فالاتحاد قوة، وبالأخص إذا صاحبه تكامل اقتصادي مفيد ومربح للجميع. باعتقادنا ربما يكمن الحل في وضع تقييم شامل لهذه التكاليف والخسائر ووضعها أمام الناخبين والدعوة لاستفتاء جديد للتصويت عليها، عندها سيحسم الأمر بعدم الخروج، وسيعمد إلى تصحيح الخطأ السابق وحفظ ماء الوجه للمملكة المتحدة.